فصل: تفسير الآية رقم (47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (47):

{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)}
ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} فلو أنها سكتت عند قولها: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} لكان أمرا معقولا في تساؤلها، ولكن إضافتها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} تثير سؤالا، من أين أتت بهذا القول {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟ هل قال لها أحد: إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك، لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس. إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله، عندما قال لها: (المسيح عيسى ابن مريم).
قالت لنفسها: إن نسبته بأمر الله هي لي، فلا أب له، لقد قال الحق: إنه (ابن مريم) ولذلك جاء قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ذلك أنه لا يمكن أن ينسب الطفل للأم مع وجود الأب. هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول. لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها، إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر. وقال الخالق الأكرم: {كَذَلِكَ} أي لن يمسك بشر، ولم يقل لها: لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت، ولكن الحق قال: {كَذَلِكَ} تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر. وتتجلى طلاقة القدرة في قوله سبحانه: {الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}.
إنها طلاقة القدرة، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للإنسان وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، ولو كانت طلاقة القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، إنه الحق الأعلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة، كخلقه لآدم عليه السلام، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما، كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة يمكن أن يُحقق الخلق، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب، ها هو ذا القول الحق: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
هذه هي إرادة الحق، إذن فلا تقل: إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث الخلق، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالأسباب. لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد بلا أسباب، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب.
ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب والحكمة...}.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}
وساعة نسمع {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل، ولكن ما دام الحق قد أتبع ذلك بقوله: {التوراة والإنجيل} فلابد لنا أن نسأل. إذن ما المقصود بالكتاب؟ هل كان المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة، كالزبور، والصحف الأولى، كصحف إبراهيم عليه السلام؟ إن ذلك قد يكون صحيحا، ومعنى {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور داود، ومن صحف إبراهيم، وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكملا لها.
وبعض العلماء قد قال: أُثِرَ عن عيسى عليه السلام أن تسعة أعشار جمال الخط كان في يده. وبذلك يمكن أن نفهم {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أي القدرة على الكتابة. وما المقصود بقوله: إن عيسى عليه السلام تلقى عن الله بالإضافة إلى {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أنه تعلم أيضا {الحكمة والتوراة والإنجيل} وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد كتاب منزل، مثال ذلك قوله الحق: {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب: 34].
كتاب الله المقصود هنا هو القرآن الكريم، والحكمة هي كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. فالرسول له كلام يتلقاه ويبلغه، ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة، أما التوراة التي علمها الله لعيسى عليه السلام فقد علمها له الله، لأننا كما نعلم أن مهمة عيسى عليه السلام جاءت لتكمل التوراة، ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة، فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع المبعوث إليه فهو بالنص القرآني: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}
إن كلمة رسول تحتاج إلى علامة، فليس لأي أحد أن يقول: (أنا رسول من عند الله) بل لابد أن يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من الله. والأية كما نعرف هي الأمر العجيب الذي خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق الرسول في البلاغ، وما دامت المعجزة خارجة عن نواميس البشر، فالمخالف نقول له: أنت حين تكذب أن حامل المعجزة رسول، فكيف تعلل أنه جاء بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم المنكر الذي يتحدى وتفحمه، لأنه لا يستطيع أن يأتي بمثلها، ولذلك قلنا: إن من لزوم التحدي ألا يتحدى الله حين يعطي رسولا معجزة إلا بشيء نبغ فيه القوم المبعوث إليهم ذلك الرسول؛ لأن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه، فالرد منهم يكون للرسول بقولهم: إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه، ولو روّضنا أنفسنا عليه لا ستطعنا أن نفعل مثله، وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه، لذلك يرسل الحق الرسول- أي رسول- بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم.. مثال ذلك، موسى عليه السلام، أرسله الله إلى قوم كانوا نابغين في السحر، فكانت معجزته تقرب من السحر.
وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لأن موسى عليه السلام لم ينزل بسحر ولكن بمعجزة. كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين ما يكون عليه ما يأتي به الله على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم، فيقول القرآن: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 17-20].
كأن الحق يقول لموسى عليه السلام: إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك، أما علمي أنا فهو علم آخر. لذلك يأمره أن يلقى العصا، فلما ألقاها وجدها حية تسعى، فأوجس في نفسه خيفة.. إن (أوجس في نفسه خيفة) هي التي فرقت بين سحر القوم ومعجزة موسى عليه السلام.
لماذا؟ لأن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لأنّ الساحر لو رآها حية لخاف مثل الناس، لقد خاف موسى عليه السلام لأنها تغيرت وصارت حية فعلا، ولذلك قال له الله: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21].
فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لأنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره حية، وهذا هو الفارق.
وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب، إذن فستجيء الآيات من جنس الحكمة والطب، ثم تتسامى المعجزة، لأن الذي يطبب جسما ويداويه لا يستطيع أن يعيد الميت إلى الحياة، لأن الإنسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علاج الطبيب. ولذلك رقّى الله آية عيسى، إنه يشفي المرضى، ويحيى الموتى أيضا، وهذا ترق في الإعجاز. قال عيسى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله}. إن كلمة (أخلق) تحتاج إلى وقفة وكذلك (الطين) و(الهيئة) و(الطير).
(أخلق) مأخوذة من الخلق، والخلق هو إيجاد شيء على تقدير، فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك أولا ثم تأتي به على هذه الحالة. فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا، إنما هو شيء جزافى جاء على غير علم وتقدير، وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس خلقا. إن الخلق هو المطلوب على تقدير. مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما صنعه الصانع. هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا، أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب، ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟
إذن فالكوب لم تكن موجودة، ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب، فهي خلق أُوجد على تقدير. فماذا عن خلق الله؟ إنه يخلق على تقدير، وفرق بين صنعة البشر حين يخلق، وبين صنعة الله حين يخلق. إن صنعة البشر حين تخلق، إنما تخلق من موجود، وحين يخلق الله فهو يخلق من معدوم، وهذا هو أول فرق، إنه سبحانه يخلق من عدم، أما الإنسان فيضع الأشياء بنظام يحدث فيها تفاعلات أرادها الله فتوجد، فلا يوجد من يستطيع- على سبيل المثال- من يصنع كوبا من غير المادة التي خلقها الله.
إن هذا أول فرق بين خلق الله، وخلق الإنسان، فخلق الله يكون من عدم، وخلق الإنسان من موجود، وإن كان الإثنان على تقدير. وأيضا يعطي الله لخلقه سرا لا يستطيع البشر إعطاءه لصنعته، فالله يعطيه سر الحياة والحياة فيها نمو، وفيها تكاثر، لكن البشر يصنعون الكوب مثلا، فتظل كوبا، ولا يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى.
إن الإنسان يوجد صنعته فتظل على حالتها، ولا يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر، لكن صنعة الله هي صنعة القادر الذي يهب الحياة، فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل، وتعطي مثلها. إذن، فالخلق إيجاد على تقدير، هذا الإيجاد يوجد معدوما، والمعدوم موجودة مادته، هذا في خلق الإنسان، أما في خلق الله، فالله يخلق من معدوم لا توجد له مادة.
والله يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل، فها هو ذا قول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 12-14].
ولم يمنع الحق خَلْقَه أن يخلقوا أشياء، ولكن خلق الله أحسن، لماذا؟ لأنه يخلق من عدم، والبشر يخلقون من موجود. وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا، والبشر يخلقون بلا نمو ولا حياة، إنه الحق أحسن الخالقين، إذن قول عيسى عليه السلام: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله}.
يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثالا كهيئة الطير. لكن الله أوجد معجزة عيسى وجعله يخلق من الطين كهيئة الطير، وينفخ فيه، وقد تسأل، في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير، أم في الطين، أم في الهيئة؟ إن قلنا: أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا. يكون النفخ في الطين، كالنفخ في الطير، وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئة. {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} [المائدة: 110].
إن النفخ فيه، تكون للطين أو الطير. والنفخ فيها تكون للهيئة، وهناك آية بالنسبة للسيدة مريم البتول: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12].
إن النفخ هنا في الفرج، وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91].
مرة يقول: {نفخنا فيه} أي في الفرج، ومرة يقول: {نفخنا فيها} أي فيها هي، والقولان متساويان، وهنا في هذه الآية، نجد أن الإعجاز ليس في أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير، لأن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك، فكأنه حينما قال: {أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله}.
كأنه صار طيرا من النفخة، أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها، لكن عيسى عليه السلام يفعل ذلك بإذن الله، ولابد أن يجيء الأمر مختلفا، و{بإذن الله} هنا تضم صناعة الطير، والنفخ فيه.
إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إلا بإذن الله، وجاءت كلمة {بإذن الله} من عيسى وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته، وكأنه يقول لقومه: إن كنتم فتنتم بهذه.
فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى، حينما قطَّع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن ثم دعاهن. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
إذن كان من الأولى الفتنة بما أعطاه الله إبراهيم عليه السلام من معجزة، فإن كانت الفتنة من ناحية الإحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلام أولى بها، وإن كانت الفتنة من ناحية أنه جاء إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم، لأن الله خلقه بلا أب أو أم. إذن فالفتنة لا أصل لها ولا منطق يبررها.. ويتابع الحق سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام {وَأُبْرِئُ الأكمه والأبرص وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله}.
لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟ لأنها كانت الأمراض المستعصية في ذلك العصر، والأكمه هو الذي ولد أعمى أي لم يحدث له العمى من بعد ميلاده. والبرص، هو ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود. وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في كافة الجسم بلون أبيض، مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا اللون، فإن مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص.
وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في الجسم، واسمها الغدد الملونة، فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء الألوان، جاء البرص والعياذ بالله. وهو مرض صعب، لم يكن باستطاعتهم أن يداووه، فعندما جاء عيسى ابن مريم أعطاه الله الآية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب. وجاء لهم بآية هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه.
وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس. يقولون: إن هذه المعجزة إنما هي سبق زمني، بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل الإنسان إلى أن يكتشف علاجا لهذه الأمراض، لكن لهؤلاء نقول: لا، إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم الساعة. كيف؟
لنأخذ مثالا من طب العيون، وعندما قالوا إن هناك علاجاً للعمى. (سنقوم بتركيب قرنية) أو أن نأخذ مثالا من طب الجلد لو قالوا: (سنداوي البرص) واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلاج تحاول أن تجعل الجلد على لون واحد، لكنه لا يستعيد لونه الأصلي. ولذلك قال البعض: (إن معجزة عيسى كانت مجرد سبق زمني). لهؤلاء نقول: لا، لنأخذ كل أمر بأدواته.
إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن يستطيع العلم أن يبرئ المرض بالكلمة والدعوة، إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل تلك الأشياء، وخلط الكيماويات وإجراء الجراحات، لذلك تظل المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه السلام معجزة؛ لأنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة.
ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم: {وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ}. ومسألة إحياء الموتى لم يأخذها عيسى هكذا على إطلاقها فيحيي كل ميت، إنما قام بها وفي وحدات تثبت صدق الآية ولا تعمم مدلول المعجزة كسام بن نوح مثلا، و(عازر) إنها أشياء لمجرد إثبات المعجزة، ولكنها ليست مطلقة، ذلك أنه نبي ورسول من الله فلا يمكن أن يصادم قدر الله في الآجال. ولذلك قالوا إنه عندما أحيا سام بن نوح، أحياه حتى نطق بكلمة، ثم عاد سام إلى الموت من بعد ذلك ويضيف الحق على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49].
لماذا؟ لأن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة، يكون هذا العلم خاصا به، وكل إنسان-مثلا- يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو، ولا يعرفها الآخرون. إن الأمر الأول كخلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، هي أمور عامة للكل. أما الإنباء بألوان الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث، لأن كل واحد يأكل أكلا معينا فيقول له عيسى ابن مريم ماذا أكل. وليس من المعقول أن يكون عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له أخبار عن كل بيت.
وكذلك أمر الادخار. وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة الإنسان فيعرف لون الطعام الذي يأكله، لذلك كان الإخبار بما يدخر كل واحد في بيته، فهذه مسألة توضح بالجلاء التام أنها آية من إخبار من يعلم مغيبات الأمور.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49].
إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة الله الحق هي التي تعطيه هذه الأشياء، فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم، لأن معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه الله وأرسله سبحانه إلى الأدنى منه، فالذي يؤمن الآية هو الذي يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب- مع إيمانه بالله- من الآية التي بعثها الله مع عيسى ابن مريم، فالآية واضحة. بالله فلن تفيده الآية في الإيمان. ويقول الحق متابعا على لسان عيسى ابن مريم: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة...}.